ثلاثون ثانية غيرت العالم
قصة اختراع البريد الالكتروني
١
لعل البريد الالكتروني هو أكثر وسائل الاتصال الحديثة انتشاراً وفاعلية في عالمنا الحالي، ومع ذلك لا نكاد نعلم شيئاً عن مولده وتطوره، وعن المبتكر الفذ الذي قدم للبشرية هذه الوسيلة الرائعة.
ثلاث من وسائل الاتصال غيرت أساليب التخاطب والاتصال بين بني البشر في أرجاء المعمورة كافة، وصارت تواريخ ابتكارها نقاطاً مضيئة في تاريخ البشرية الحديث، وبات مخترعوها من المشاهير الذين لولاهم، لما بدت الدنيا كما هي اليوم.
في الرابع والعشرين من مايو 1844 أرسل صامويل ب. مورس، مخترع التلغراف، برقية كتب فيها: "مأذا خلق الله!". لم يكن مورس يعلم أنه بإرساله تلك البرقية إنما كان يصنع التاريخ، ولكنه كان كذلك في واقع الأمر، فقد كانت تلك أول برقية ترسل في التاريخ، ومنذ ذلك اليوم ومورس واحد من عظماء العالم في مجال الاختراعات العلمية.
وفي العاشر من مارس 1876، اتصل الانا غير مهذبندر جراهام بل، مخترع الهاتف، بأحد مساعديه قائلاً: "سيد واتسون . . تعال، أريدك هنا". وذعر واتسون الذي كان يستمع الى صوت يفترض في حسابات المنطق والمعروف آنذاك أنه آت من مكان بعيد لا يمكن للصوت أن يصل خلاله إلا بمعجزة وكانت تلك معجزة حقاً. فقد كان واتسون يستمع الى أول مكالمة هاتفية في التاريخ.
واليوم، لا يكاد يوجد من لا يعرف من هو الانا غير مهذبندر جراهام بل؟ فحتى تلاميذ المدارس الصغار يعرفون أنه مخترع الهاتف.
وفي العام 1895 أرسل الايطالي جولييلمو ماركوني، صوته عبر الهواء مدشناً أحد أعظم مخترعات عصرنا، وأعني به الاتصال اللاسلكي، وعلى الرغم من أنه حرم من تسجيل كلماته الأولى عبر اختراعه، فإن ماركوني نال ما لم ينله سابقاه، جراهام بل ومورس من شهرة وتقدير، فقد كرم ماركوني بحصوله على جائزة نوبل للفيزياء عام 1909.
لقد غيرت وسائل الاتصال هذه وجه العالم وحفرت أسماء مخترعيها عميقاً في سجل التاريخ، فمن يمكنه تصور الحياة الحديثة من دون وسائل الاتصال التي قدمها هؤلاء الثلاثة للبشرية؟
لكن الاختراعات في مجال الاتصالات لم تتوقف عند هؤلاء المخترعين الثلاثة، فقد جاء اختراع رابع ليمثل ذروة الاتصالات بين بني البشر في عالم اليوم، وأعني بذلك البريد الالكتروني الذي دخل حيز الوجود في سبعينيات القرن الماضي، والذي أصبح الاتصال عبره عنوان الحداثة في عالمنا المعاصر.
لقد كان كل من هذه الاختراعات ثورة في عالم الاتصال، وصنع كل منها لمخترعه مجداً يستحقه وخلده في كتب التاريخ، إلا رابع هؤلاء المخترعين الذي جحده اختراعه وتفوق عليه شهرة، واضعاً إياه في الظل، ففي حين حاز المخترعون الثلاثة الأوائل شهرة مدوية وكتبت أسماؤهم في سجل الخلود، ما زال مخترع البريد الالكتروني وواضع اسسه مجهولاً يقبع في الظل. كما بقيت مجهولة للأكثرية من مستخدمي الانترنت، الطريقة التي اخترع بها وسيلته الاتصالية الحديثة. فمن سمع عن براي توملينسون؟ إنه مخترع البريد الالكتروني الذي يعيش حياة عادية موظفاً في شركة أمريكية منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. دون أدنى محاولة لتعريف العالم بأنه أحد رجال التاريخ، فتوملينسون فخور بما اخترعه، وهذا يكفيه.
من توملينسون وإليه
في شهر يوليو من العام 1982 أرسل راي توملينسون أول رسالة الكترونية في التاريخ. وقد وصلت الرسالة الى العنوان الذي أُرسلت إليه على الفور، فقد أرسلها راي لنفسه. ولا يذكر توملينسون ما كانت تحتويه الرسالة بالضبط، كل ما يذكره أنها كانت تجميعاً لعدد من الأحرف التي كتبت في صورة عشوائية مكونة كلمة "QWERTYIOP" ، أو شيء من هذا القبيل.
تخرج راي توملينسون في العام 1965 في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وهو واحد من أشهر المراكز العلمية في العالم، وعمل بعد ذلك ضمن فريق شركة "بي بي أن" في ولاية ماساشوستس الأمريكية. ومنذ ذلك التاريخ والأحداث تبدو وكأنه ارتبت نفسها بحيث تقوده الى إحدى المصادفات التاريخية الاستثنائية. وهذا ما حدث حقاً، إذ قادت هذه المصادفات توملينسون نحو اختراعه الذي لم يكن مطلقاً ضمن جدول أعماله، وذلك بعانا غير مهذب بقية اختراعاته، التي كانت تخضع للدراسات المسبقة، وكان يقوم بها إما عن سابق إصرار، أو بطلب من الشركة التي يعمل لديها.
اختارت وزارة الدفاع الأمريكية شركة "بي بي أن" التي يعمل فيها توملينسون، لتقوم ببناء "أربانت" – ARPANET – وهي الأحرف التي ترمز الى الشبكة التي تربط المعاهد العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية بعضها بعضاً، وتجعلها على اتصال فيما بينها فقط. وذلك على غرار الشبكات المحلية التي تربط بين أجهزة الكمبيوتر في مؤسسة واحدة حالياً. واليوم يطلق على تلك الشبكات المحلية الأولى اسم "جدة الانترنت". فقد كانت تلك هي الشكل الأول أو التجربة الأولى على ما أصبح يعرف اليوم بشبكة الإنترنت، فشبكة اليوم هي ابنة "جدة الانترنت" الشرعية.
شارك توملينسون في تصميم تلك الشبكة ببرنامج بسيط لكتابة الرسائل يدعى SNDMSG وذلك لكي يتمكن العاملون عبر شبكة "أربانت" من أن يتركوا من خلاله رسائل لبعضهم البعض الآخر. وهذا البرنامج لا يرقى الى مستوى البريد الالكتروني الحالي بطبيعة الحال، ولكنه كان خطوة مهمة على الطريق إليه. وأهمية هذا البرنامج أنه يصنع ملفاً توضع فيه الرسالة، وهو ما يعني أنه لا يستعمل إلا بين شخصين أو أكثر يشتركون في جهاز كمبيوتر واحد. من تلك الأجهزة التي كانت متوافرة في المعاهد والجامعات المشتركة بشبكة آربانت، فالكمبيوترات الشخصية لم تكن قد ظهرت بعد. حيث كان عليه أن ينتظر حتى عام 1981 لتظهر محدثة التحول الأكبر في عالم التكنولوجيا الحديثة التي تسيطر على عالمنا اليوم.
يقول توملينسون "لم يكن صندوق البريد إلا ملفاً يكتب فيه المستخدم رسالته، ولا يمكن للقارئ إعادة الكتابة عليه أو تحريره، يمكنه قراءته فقط". وكما ذكرنا، فقد كان الهدف ترك الرسائل من الشخص الذي انتهى عمله على الجهاز للشخص الذي سيتولى أمره من بعده، من دون الحاجة للقاء. في هذه الأثناء كان توملينسون قد صمم برنامجاً آخر يدعى "سيبنت" – يسمح بنقل الملفات من جهاز كمبيوتر الى أخر على أن يكون الجهازان مرتبطين بشبكة أربانت.
"إن لم تجد رابطاً ما بين هذين البرنامجين فأنت لست مخترعاً". مثل هذه العقلية الفذة التي تربط بين المخترعات المختلفة كانت متوافرة عند توملينسون، وهي التي جعلته يفكر بالبريد الإلكتروني. "الأمر واضح: إنها مسألة تقارب فكرتين معاً". فهناك برنامج S NDMSG وهو برنامج لكتابة الرسائل على الكمبيوتر نفسه، وبرنامج CYPNET وهو برنامج ينقل الملفات من كمبيوتر الى آخر. إذن لماذا لا يصبح كلا البرنامجين برنامجاً واحداً، برنامجاً ينقل الرسائل إلكترونياً من جهاز كمبيوتر الى آخر؟ في هذه اللحظة ولد البريد الالكتروني، في ذهن توملينسون أولاً. ولم يحتج الأمر إلا الى "إضافة الحلقة الناقصة"، كما يقول توملينسون.
والحلقة الناقصة كانت دمج برنامج CYPNET الذي ينقل الملفات، ببرنامج SNDMSG الذي يكتب الرسالة، وكان نتاج هذا الاندماج البريد الالكتروني
قصة اختراع البريد الالكتروني
١
لعل البريد الالكتروني هو أكثر وسائل الاتصال الحديثة انتشاراً وفاعلية في عالمنا الحالي، ومع ذلك لا نكاد نعلم شيئاً عن مولده وتطوره، وعن المبتكر الفذ الذي قدم للبشرية هذه الوسيلة الرائعة.
ثلاث من وسائل الاتصال غيرت أساليب التخاطب والاتصال بين بني البشر في أرجاء المعمورة كافة، وصارت تواريخ ابتكارها نقاطاً مضيئة في تاريخ البشرية الحديث، وبات مخترعوها من المشاهير الذين لولاهم، لما بدت الدنيا كما هي اليوم.
في الرابع والعشرين من مايو 1844 أرسل صامويل ب. مورس، مخترع التلغراف، برقية كتب فيها: "مأذا خلق الله!". لم يكن مورس يعلم أنه بإرساله تلك البرقية إنما كان يصنع التاريخ، ولكنه كان كذلك في واقع الأمر، فقد كانت تلك أول برقية ترسل في التاريخ، ومنذ ذلك اليوم ومورس واحد من عظماء العالم في مجال الاختراعات العلمية.
وفي العاشر من مارس 1876، اتصل الانا غير مهذبندر جراهام بل، مخترع الهاتف، بأحد مساعديه قائلاً: "سيد واتسون . . تعال، أريدك هنا". وذعر واتسون الذي كان يستمع الى صوت يفترض في حسابات المنطق والمعروف آنذاك أنه آت من مكان بعيد لا يمكن للصوت أن يصل خلاله إلا بمعجزة وكانت تلك معجزة حقاً. فقد كان واتسون يستمع الى أول مكالمة هاتفية في التاريخ.
واليوم، لا يكاد يوجد من لا يعرف من هو الانا غير مهذبندر جراهام بل؟ فحتى تلاميذ المدارس الصغار يعرفون أنه مخترع الهاتف.
وفي العام 1895 أرسل الايطالي جولييلمو ماركوني، صوته عبر الهواء مدشناً أحد أعظم مخترعات عصرنا، وأعني به الاتصال اللاسلكي، وعلى الرغم من أنه حرم من تسجيل كلماته الأولى عبر اختراعه، فإن ماركوني نال ما لم ينله سابقاه، جراهام بل ومورس من شهرة وتقدير، فقد كرم ماركوني بحصوله على جائزة نوبل للفيزياء عام 1909.
لقد غيرت وسائل الاتصال هذه وجه العالم وحفرت أسماء مخترعيها عميقاً في سجل التاريخ، فمن يمكنه تصور الحياة الحديثة من دون وسائل الاتصال التي قدمها هؤلاء الثلاثة للبشرية؟
لكن الاختراعات في مجال الاتصالات لم تتوقف عند هؤلاء المخترعين الثلاثة، فقد جاء اختراع رابع ليمثل ذروة الاتصالات بين بني البشر في عالم اليوم، وأعني بذلك البريد الالكتروني الذي دخل حيز الوجود في سبعينيات القرن الماضي، والذي أصبح الاتصال عبره عنوان الحداثة في عالمنا المعاصر.
لقد كان كل من هذه الاختراعات ثورة في عالم الاتصال، وصنع كل منها لمخترعه مجداً يستحقه وخلده في كتب التاريخ، إلا رابع هؤلاء المخترعين الذي جحده اختراعه وتفوق عليه شهرة، واضعاً إياه في الظل، ففي حين حاز المخترعون الثلاثة الأوائل شهرة مدوية وكتبت أسماؤهم في سجل الخلود، ما زال مخترع البريد الالكتروني وواضع اسسه مجهولاً يقبع في الظل. كما بقيت مجهولة للأكثرية من مستخدمي الانترنت، الطريقة التي اخترع بها وسيلته الاتصالية الحديثة. فمن سمع عن براي توملينسون؟ إنه مخترع البريد الالكتروني الذي يعيش حياة عادية موظفاً في شركة أمريكية منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. دون أدنى محاولة لتعريف العالم بأنه أحد رجال التاريخ، فتوملينسون فخور بما اخترعه، وهذا يكفيه.
من توملينسون وإليه
في شهر يوليو من العام 1982 أرسل راي توملينسون أول رسالة الكترونية في التاريخ. وقد وصلت الرسالة الى العنوان الذي أُرسلت إليه على الفور، فقد أرسلها راي لنفسه. ولا يذكر توملينسون ما كانت تحتويه الرسالة بالضبط، كل ما يذكره أنها كانت تجميعاً لعدد من الأحرف التي كتبت في صورة عشوائية مكونة كلمة "QWERTYIOP" ، أو شيء من هذا القبيل.
تخرج راي توملينسون في العام 1965 في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وهو واحد من أشهر المراكز العلمية في العالم، وعمل بعد ذلك ضمن فريق شركة "بي بي أن" في ولاية ماساشوستس الأمريكية. ومنذ ذلك التاريخ والأحداث تبدو وكأنه ارتبت نفسها بحيث تقوده الى إحدى المصادفات التاريخية الاستثنائية. وهذا ما حدث حقاً، إذ قادت هذه المصادفات توملينسون نحو اختراعه الذي لم يكن مطلقاً ضمن جدول أعماله، وذلك بعانا غير مهذب بقية اختراعاته، التي كانت تخضع للدراسات المسبقة، وكان يقوم بها إما عن سابق إصرار، أو بطلب من الشركة التي يعمل لديها.
اختارت وزارة الدفاع الأمريكية شركة "بي بي أن" التي يعمل فيها توملينسون، لتقوم ببناء "أربانت" – ARPANET – وهي الأحرف التي ترمز الى الشبكة التي تربط المعاهد العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية بعضها بعضاً، وتجعلها على اتصال فيما بينها فقط. وذلك على غرار الشبكات المحلية التي تربط بين أجهزة الكمبيوتر في مؤسسة واحدة حالياً. واليوم يطلق على تلك الشبكات المحلية الأولى اسم "جدة الانترنت". فقد كانت تلك هي الشكل الأول أو التجربة الأولى على ما أصبح يعرف اليوم بشبكة الإنترنت، فشبكة اليوم هي ابنة "جدة الانترنت" الشرعية.
شارك توملينسون في تصميم تلك الشبكة ببرنامج بسيط لكتابة الرسائل يدعى SNDMSG وذلك لكي يتمكن العاملون عبر شبكة "أربانت" من أن يتركوا من خلاله رسائل لبعضهم البعض الآخر. وهذا البرنامج لا يرقى الى مستوى البريد الالكتروني الحالي بطبيعة الحال، ولكنه كان خطوة مهمة على الطريق إليه. وأهمية هذا البرنامج أنه يصنع ملفاً توضع فيه الرسالة، وهو ما يعني أنه لا يستعمل إلا بين شخصين أو أكثر يشتركون في جهاز كمبيوتر واحد. من تلك الأجهزة التي كانت متوافرة في المعاهد والجامعات المشتركة بشبكة آربانت، فالكمبيوترات الشخصية لم تكن قد ظهرت بعد. حيث كان عليه أن ينتظر حتى عام 1981 لتظهر محدثة التحول الأكبر في عالم التكنولوجيا الحديثة التي تسيطر على عالمنا اليوم.
يقول توملينسون "لم يكن صندوق البريد إلا ملفاً يكتب فيه المستخدم رسالته، ولا يمكن للقارئ إعادة الكتابة عليه أو تحريره، يمكنه قراءته فقط". وكما ذكرنا، فقد كان الهدف ترك الرسائل من الشخص الذي انتهى عمله على الجهاز للشخص الذي سيتولى أمره من بعده، من دون الحاجة للقاء. في هذه الأثناء كان توملينسون قد صمم برنامجاً آخر يدعى "سيبنت" – يسمح بنقل الملفات من جهاز كمبيوتر الى أخر على أن يكون الجهازان مرتبطين بشبكة أربانت.
"إن لم تجد رابطاً ما بين هذين البرنامجين فأنت لست مخترعاً". مثل هذه العقلية الفذة التي تربط بين المخترعات المختلفة كانت متوافرة عند توملينسون، وهي التي جعلته يفكر بالبريد الإلكتروني. "الأمر واضح: إنها مسألة تقارب فكرتين معاً". فهناك برنامج S NDMSG وهو برنامج لكتابة الرسائل على الكمبيوتر نفسه، وبرنامج CYPNET وهو برنامج ينقل الملفات من كمبيوتر الى آخر. إذن لماذا لا يصبح كلا البرنامجين برنامجاً واحداً، برنامجاً ينقل الرسائل إلكترونياً من جهاز كمبيوتر الى آخر؟ في هذه اللحظة ولد البريد الالكتروني، في ذهن توملينسون أولاً. ولم يحتج الأمر إلا الى "إضافة الحلقة الناقصة"، كما يقول توملينسون.
والحلقة الناقصة كانت دمج برنامج CYPNET الذي ينقل الملفات، ببرنامج SNDMSG الذي يكتب الرسالة، وكان نتاج هذا الاندماج البريد الالكتروني